قال ملك مرض ولده فجأة مرضاً خطيراً : لئن شفي ولدي من مرضه لأملأن بئراً في حديقة عسلاً وزبداً ليغرف الفقراء منها ما يشاؤون . وبعد أيام عدة شفي الأمير ، فملئت البئر عسلاً وزبداً بأمر الملك . ولما علمت عجوز فقيرة أن كل الناس في إمكانهم الذهاب والاغتراف من العسل والزبد بادرت بالذهاب إلى البئر وما معها سوى قشرة بيضة ، وحين لمحها الأمير المتماثل للشفاء من النافذة انفجر يضحك إذ رأى أنها لم تجلب معها سوى تلك القشرة ، وما كان منه إلا أن أخذ قوسه وأرسل سهماً كسرها به ، فالتفتت العجوزإليه وخاطبته تقول : يا بني ! بما إنك حاذق في الرمي بالسهام فالواجب أن ترحل لغزو بنت شجرة البرتقال .
فسألها الأمير : ماذا تعنين ؟
قالت : هناك شجرة برتقال تتوسط حديقة في بلاد الجن ، وفي قلب كل حبة برتقال فتاة جميلة ،إلا أن ألوف الجن يحرسون تلك الشجرة لذا لم ينجح أي شخص في قطف ولو حبة منها ؛ لأنهم ينقضون على من يريد أخذ أي حبة ويذبحونه بلا رحمة .
قال الأمير : أنا أهل لهذه المأثرة .
ورمى إلى العجوز قطعة ذهبية فقالت له : إذا كنت حقاً تريد أن تقدم على هذه المغامرة فاحذر أتم الحذر قطف حبات البرتقال بيدك ، ولا تنس أن تأخذ معك في كل حال حفنة ملح وعلبة دبابيس ؛ ففيهما فائدة كبيرة لك .
شكر الأمير العجوز على نصائحها ، وفي الغد ، قبل طلوع الشمس ، ركب جواده وارتحل سريع الخطا . وبعد ترحال طال عدة أيام بلغ بلاد الجن ، فقيد جواده إلى شجرة ، ووفق إلى ولوج حديقة البرتقال دون أن يلمحه أحد من الجن الذين كانوا في نوم عميق . دنا من الشجرة متلطفاً واقتطف منها حبة مستعملاً مقص حديد ، فسُمِع صوتٌ في الحال يقول : إنه يقطف ! إنه يقطف ! فسأل جني دون أن يصحو تماماً : من الذي يقطف ؟
قال الصوت : الحديد . رد الجني : حماقة ! الحديد لا يمكنه أن يقطف . وتابع نومه . قطف الأمير برتقالة أخرى مستعملاً هذه المرة عصا ، فصرخ الصوت : إنه يقطف ! إنه يقطف ! سأل الجني دون أن يفتح عينيه : من الذي يقطف ؟ أجاب الصوت : الخشب . غمغم الجني : حماقة ! الخشب لا يمكنه أن يقطف . وعاود نومه .
وهكذا استطاع الأمير قطف ست برتقالات , إلا إنه ازداد جرأة فقطف السابعة بيده فصرخ الصوت : إنه يقطف
فسُئل : من يقطف ؟!فرد : اليد .وعندئذٍ صحا كل الجن وأرادوا الانقضاض على السارق , إلا إنه وثب بحيوية على ظهر جواده وفر سريع الخطا , كان الجن أسرع من الحصان , وفي الحال , أدرك الأمير أنه غير قادر على الإفلات منهم فأسقط وراءه علبة الدبابيس التي جلبها معه حسب مشورة العجوز ,وفي ثانية احتشدت تلك الدبابيس وانتصبت حاجزاً في درب المطاردين .
شعر الجن بأنهم ملزمون بقطع ذلك الحاجز , بيد أن الدبابيس كست أجسادهم خدوشاً , وإن نجحوا في الاقتراب من السارق الآبق , ولحظتها أسقط وراءه حفنة الملح التي أحضرها معه وفق مشورة العجوز . صارت تلك الحفنة جداراً رغب الجن في اجتيازه غير أن الملح اخترق خدوشهم فماتوا كلهم محترقين . وحالما تخلص الأمير من متعقبيه تابع دربه مشي الهوينى ، حتى إذا بلغ أبواب مدينته ترجل على شط النهر وشق حبة برتقال ، فرأى فتاة تخرج منها في فيض ابتهاج صائحة :ارحمني ! هبني ماء وخبزاً ! فلم يقدر الأمير على وهبها شيئاً ، فشحب وجهها وهوت ميتة . إن كل حبة برتقال شقها كانت تهب الحياة لفتاة فتانة الحسن ماتت حالما طلبت الماء والخبز . عند ذاك اتخذ الأمير احترازاته قبل أن يشق الحبة السابعة ، فحط فوق صخرة إناء مملوءاً ماء وحط جواره شريحة خبز ، فلما خرجت الفتاة السابعة من الحبة المشقوقة مد لها ما طلبته ، فكتبت لها الحياة . نظر الأمير إليها فرآها أخاذة الحسن إلا إنها تلبس ثوباً أسود ، فسألها : لم تلبسين ثوباً أسود ؟
أجابت محزونة : حداداً على أخواتي الست .
فواساها أصدق المواساة وقال لها : سأعود إلى قصر والدي الملك لأخبره بوصول خطيبتي ،وليعدوا لها استقبالاً يليق بها ، وبعد ثلاثة أيام سأعود لإحضارك . تسلقي هذه الشجرة في انتظاري !
قال ذلك وابتعد عنها . كانت فتاة مسرفة الدمامة تعمل خادماً في قرية مجاورة اعتادت القدوم لجلب الماء من النهر ، وأثناء امتياحها الماء نهار ذاك اليوم رأت وجهاً في حسن البدر تنعكس صورته في صفحة الماء ، فخالت تلك الصورة انعكاساً لوجهها هي ، فكسرت جرتها وعادت مختالة إلى منزل مخدوميها . قالت لسيدتها : لم أعمل عندك وأنا في كمال الحسن وأنت في كمال القبح ؟ !
لم تصدق السيدة سمعها في البدء أمام هذه الإساءة الكبيرة ، فأخذت مرآة وأبانت للخادم وجهها الحقيقي ، فاستشعرت هذه المهانة ، ورجعت إلى النهر لترى ثانية وجهاً في حلاوة طلعة البدر .
قالت : لا أفهم شيئاً ! في المنزل قبيحة ، وعند النهر في بهاء البدر !
ولما سمعتها بنت شجرة البرتقال تتكلم على تلك الشاكلة انفجرت تضحك . هنالك أبصرت الخادم من كانت تنتظر داخل الشجرة ، فسألتها أن تراها بصورة أدنى ، فأعانتها بنت شجرة البرتقال على تسلق الشجرة ، فسألتها هذه حين رأت حسنها الأخاذ عمن تنتظره ، فحدثتها بنت شجرة البرتقال دون حذر بكل ما حدث لها . استبدت غيرة مهولة بقلب الخادم فلم تتردد في قتل بنت شجرة البرتقال، ونبذ جثتها في النهر إلا إن الدم الذي سال من الضحية البائسة بعلة تلك الغيرة المخبولة انبجس من الثرى شجيرة بديعة تحمل أزهاراً من ذهب . استقرت الخادم في دخيلة الشجرة مطرح بنت شجرة البرتقال . وعاد الأمير بعد ثلاثة أيام مثلما وعد الفتاة يليه موكبه وسائر أعيان البلاد لإحضار خطيبته . ويا للهلع الذي دهاه حين رأى في الشجرة فتاة سوداء البشرة ذات دمامة مقززة ! وإزاء الهلع والتقزز اللذين أبانهما الأمير قالت الخادم في صوت جهدت ليكون رخيماً : ألا تعرفني ؟ ! أنا بنت شجرة البرتقال ، وأنت ذهبت إلى قصر والدك الملك لتعلن خبر قدومي .
سأل الأمير : لم صار جسدك شديد السواد ؟ !
- أحرقتني الشمس في انتظارك .
- ما سبب شدة خشونة صوتك ؟
- قدم غراب إلى الشجرة وشق لساني بمنقاره .
_ أين غدائرك المديدة ؟
_ لم يمشطني أحد فسقطت .
لم يدر الأمير ما عساه يقول ، ولم يستطع فهم كيف آلت الفتاة الفاتنة المحبوبة التي تركها هنا إلى هذه البشاعة ، لكنه عزم على مواجهة حظه السيء بطيبة قلبه ، فأنزل الخادم عن الشجرة ، وسار بها إلى قصر والده حيث قدمها بوصفها زوجة المستقبل . وبعد أيام قدمت غسالة القصر لغسل الملابس على شط النهر حيث الشجرة الذهبية الأزهار ، فراقها حسن تلك النبتة التي لم تعهد لها مشبهاً من قبل ، فقطعت غصوناً منها لتزيين بيتها حتى إذا عادت إليه مساء وضعت تلك الغصون في مزهرية . وفي الغد ذهبت إلى عملها حسب العادة ، ولما عادت في المساء ألفت حجرتها منظفة وطعامها معداً ، وإذ عجزت عن تفسير ذلك اختبأت يوماً وراء ساتر لترى من الذي أساء لها هذه الإساءة الكبيرة . انتظرت لحظات ثم رأت أغصان الشجرة تنقلب فتاة فذة الجمال شرعت تنظف البيت وتعد الطعام . وحين تهيأت لترجع شجيرة خرجت الغسالة من مخبئها ، وأمسكت بيدها وصاحت : أيتها الرائعة ! قولي لي من تكونين ؟
ردت المجهولة : بنت شجرة البرتقال . وحكت للمرأة كل ما وقع لها . أحياناً كانت بنت شجرة البرتقال تطلب من الغسالة ألا تنطق لها كلمة قصد تعليمها بل تترك لها كامل حريتها . تعلمت منها فن تطريز الثياب تطريزاً
لا نظير لروعته . كانت الغسالة تحمل الثياب إلى السوق لبيعها . وبعد وقت يسير عرض بعض تلك الثياب على الخادم التي حلت محل الفتاة الجميلة في قصر الملك ، فأصرت في الحال صائحة صيحة مدوية بأنهم يجب أن يطرزوا لها ثياباً جميلة أيضاً. وفي الغد دعا الأمير إلى القصر كل مطرزات اللؤلؤ في المدينة لتطريز ثياب لزوجة المستقبل ، وحضرت إلى القصر أيضاً بنت شجرة البرتقال . ولما ألفت نفسها بين مطرزات اللؤلؤ الأخريات قالت لهن : اسمعنني جيداً !سأحكي لكن قصة أثناء العمل .
وشرعت تحكي قصتها فسمعتها الخادم وعرفتها فامتلأت حنقاً ، وتناولت هراوة لقتلها . حضر الأمير على الصراخ والصخب ، فلما دخل القاعة التي تشتغل فيها النسوة المطرزات ارتمين كلهن على قدميه يسألنه حمايتهن من ثورة غضب الخادم . أراد الأمير معرفة علة تلك المعركة الغريبة ؛ فطلب من أجمل المطرزات أن تحكي قصتها ، وقبل أن تنهيها عرف في شخصها خطيبته الحقيقية ، فقادها داخل المقاصير الأميرية وبعد قليل تزوجها . أما الخادم فشدت إلى ذيل بغل متوحش شرد بها إلى الصحراء ، ومن يومها ما سمع لها أحد ذكراً.